الوضع المظلم
الخميس ٠٨ / مايو / ٢٠٢٥
Logo
  • فرنسا تصافح الجولاني..الاستبداد حين يتعطّر بالحداثة

فرنسا تصافح الجولاني..الاستبداد حين يتعطّر بالحداثة
شادي عادل الخش 

يحدث أن تنهار الأنظمة. ويحدث أيضًا أن تتقدّم قوى الواقع لملء الفراغ. لكن حين تتدخل فرنسا، يحدث شيء مختلف: لا تميل نحو من يمثل التحول، بل نحو من يمكن تدجينه.

 هذا ما حدث بعد الثورة الإيرانية، وهذا ما حدث بعد سقوط القذافي، وهذا ما يتكرّر اليوم بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث لا تجد باريس أقرب إلى يدها من يد أحمد الشرع، الرئيس المؤقت لسوريا، الخارج من معطف جبهة النصرة، والذي نصب نفسه زعيمًا مطلق الصلاحيات على أنقاض دولة منهارة، بإعلان دستوري هو أقرب لبيعة جهادية منه إلى عقد سياسي.

منذ الإعلان عن زيارة الشرع المحتملة إلى باريس، والجميع يهمس. كيف لدولة غربية كفرنسا، كانت في طليعة من صنّف النصرة كتنظيم إرهابي، أن تفتح قصر الإليزيه لرجل لم يخضع لمحكمة دولية، ولم يأتِ بصندوق اقتراع، بل بنظرية الغلبة؟ 

لكن من يعرف فرنسا، لن يستغرب. فرنسا لا تملك مشكلة في الأيدي الملطخة، طالما أنها لم تعُد تقبض على السلاح، بل على قلم التوقيع.

في أدبيات الجمهورية الخامسة، لم تكن الديمقراطية شرطًا للتعامل، بل القابلية للانضباط.
 إدريس ديبي حكم تشاد كعسكري حتى مقتله، ثم باركت فرنسا وصول ابنه للحكم بتصريح بارد عن “الاستمرارية”. 

في الغابون، علي بونغو واصل استبداد والده لعقود تحت رعاية فرنسية خالصة، إلى أن أطاحه انقلاب عسكري، فصمتت باريس ثم تكيّفت. 

لبنان في الثمانينيات قدّم دروسًا أخرى: تفاهمات مع حزب الله، صفقات رهائن، مساومات تحت الطاولة. أما مالي، فكانت التجلي الأوضح لعقيدة "التحالف مع من يسيطر"، حتى لو كانت قبضته ملطخة بالتطرف.

واليوم، لا تجد فرنسا ما يمنعها من تكرار اللعبة ذاتها. الرئيس الجديد لسوريا، أحمد الشرع، رغم سجله القديم، يقدّم نفسه بثقة رجل الدولة.
 يتحدث عن السيادة، يشكّل حكومات، يوقّع مراسيم، ويرتدي البدلة الرسمية. لم يعد أميرًا، بل رئيسًا مؤقتًا لدولة منهكة، يحكمها بقبضة أمنية وسط مؤسسات تبدو في ظاهرها مدنية. الإعلان الدستوري الذي أصدره لم يُمرر عبر هيئة منتخبة، ولم يُستفتَ عليه أحد، لكنه منح الشرع كل ما منحه دستور 1973 لحافظ الأسد… وأكثر.

هذه ليست دولة، بل بنية سلطة. وفرنسا بارعة في التعامل مع البُنى. لا تبحث عن الشرعية، بل عن القابلية للتوظيف. هل يستطيع الشرع تثبيت الاستقرار في شمال ووسط البلاد؟ هل يملك مفاتيح التفاوض مع تركيا؟ هل يمكنه الحد من النفوذ الإيراني؟ هل يملك رجال أمن يضمنون سلامة شركات التنقيب الغربية إذا عادت إلى حمص ودير الزور؟ هذه الأسئلة هي التي تُطرح في باريس، لا سؤال: من انتخب هذا الرجل؟

ما يفعله أحمد الشرع في سوريا هو هندسة شكل جديد من الاستبداد، أكثر طواعية، وأقل صخبًا، لكنه أكثر خطورة. فالاستبداد الجديد لا يأتي بشعار "إلى الأبد"، بل بشعار "الشرعية بحكم الواقع". لا يحتاج إلى صراخ ولا إلى صور على الجدران، بل إلى إعلان دستوري ينظّم الصلاحيات المطلقة، وإلى حكومة تكنوقراط تدير الركام، وإلى علاقات دولية تبرّد الغضب الشعبي.

ومع كل هذا، تجد فرنسا في هذا المشروع ما يروق لها. فرئيس له ماضٍ متشدد، لكنه يتحرك الآن ببراغماتية، هو أفضل من معارضة متشظية لا تملك قرارًا. ورئيس جاء من خارج النخب التي ترفض فرنسا التعامل معها، هو فرصة لإعادة بناء نفوذها في بلد خرج من مجالها منذ عقود. ثم إن إسرائيل – وإن لم تصرح – قد تفضّل زعيمًا يمكن احتواؤه، على فوضى تملأ الجنوب بالسلاح.

لكن المعضلة أن الشرع، رغم كل تحولاته الشكلية، لم يغير قواعد اللعبة، بل فقط قواعد الخطاب. لم يتخل عن مركزيته السلطوية، بل أعاد تأهيلها لغويًا. لم ينقل سوريا إلى طور دولة القانون، بل انه يحاول تأسيس سلطة تعترف بالغرب وتعيد إنتاج الهيمنة داخليًا. والمفارقة أن هذا المشروع يجد من يرحّب به في أوروبا، باسم الواقعية.

حين تصافح فرنسا أحمد الشرع، فهي لا تفعل ذلك بوهم اللحظة، بل بإرثٍ من التصرفات التي جعلت من الإليزيه منصة لإعادة تدوير السلطة، لا لمساءلتها.

 فليست المرة الأولى التي تستقبل فيها باريس زعيمًا مثيرًا للجدل وكأن شيئًا لم يكن. لقد سبق أن فُرش السجاد الأحمر لبشار الأسد عام 2008، في ذروة الرهان الأوروبي على إمكانية ترويض نظامه عبر أدوات الشراكة والتطبيع، قبل أن تنكشف لاحقًا فداحة هذا الوهم. الفرق الوحيد أن الشرع لا يخدع أحدًا ببدلة غربية أو زوجة لامعة، بل يقدّم نفسه كما هو: سلطة كاملة بصيغة الأمر الواقع، تتقن التفاوض، وتفهم منطق السوق السياسي الذي لطالما أتقنته فرنسا.

الفرق الوحيد أن الشعب السوري بات اليوم أكثر وعيًا. ولن تنطلي عليه لعبة الحداثة الشكلية. ولن يقبل أن يُحكم من جديد بلا تفويض، ولو جاء الحاكم ببذلة وربطة عنق وملف استثماري.

 الاستبداد حين يلبس لغة الدولة، يصبح أكثر إقناعًا… لكنه لا يصبح أقل خطرًا.

وفرنسا، إذا ما صافحته، فلن تفعل ذلك بوصفها قوة أخلاقية، بل بوصفها قاطرة تجيد تزييت عجلات السلطة… حتى لو كانت موجهة إلى الخلف.

ليفانت: شادي عادل الخش

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!