-
من الشراكة الوطنية إلى الاستحقاق الكوردي: رؤية لوطن سوري تعددي ديمقراطي

في خضم الأزمات المتراكمة التي تعصف بسوريا، وتحت وطأة الانقسامات السياسية والمجتمعية التي طالت بنية الدولة والمجتمع، تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة صياغة العقد الوطني السوري على أسس جديدة، تُنهي عقودًا من الإقصاء والتهميش، وتفتح الطريق نحو دولة عادلة، ديمقراطية، متعددة،اتحادية , تحتضن جميع أبنائها دون تمييز.
حيث أكدت تجارب الشعوب المتعددة، أن وحدة الأوطان لا تُبنى بالقسر أو الإنكار، بل بالاعتراف والاحترام المتبادل. وسوريا، بتاريخها وحاضرها، ليست دولة أحادية القومية أو الثقافة أو العقيدة، بل بلد غني بتنوعه، يتشارك فيه العرب والكورد والسريان والآشوريون والتركمان والشركس، كما يتلاقى فيه المسلمون والمسيحيون والإيزيديون والعلويون والدروز في نسيج واحد، مزقته السياسات المركزية الاستبدادية، لكنه ما زال قابلاً للترميم إن توفرت الإرادة.
الانتقال من الدولة الأمنية إلى دولة المواطنة
إن الخروج من نفق الحرب والدمار لا يمكن أن يتحقق من دون إعادة تعريف ماهية الدولة السورية. يجب أن يُعاد بناء الدولة على أسس دستورية فوقية، تعترف صراحة بالتعدد القومي والديني، وتكفل الحقوق المتساوية لجميع المكونات دون تمييز أو امتياز. فالمواطنة ليست شعارًاً، بل عقد شراكة يترجم في كل بند من بنود الدستور، وفي كل مؤسسة من مؤسسات الحكم، وفي توزيع الثروة والسلطة، وفي تمكين المرأة والشباب، واحترام الحريات العامة والفردية.
الدولة السورية المنشودة ليست تلك التي تُختزل في المركز والسلطة الأحادية، بل دولة لامركزية، تشاركية، تضمن العدالة في التنمية، وتكسر الهيمنة التي لطالما مورست على الأطراف والمكونات. وهذا يتطلب مراجعة شاملة للتقسيمات الإدارية، وضمان مشاركة الجميع في صياغة الدستور، وتمثيلهم في حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات حقيقية.
الكورد شركاء في الوطن... لا ضيوف على الهامش
وسط هذه الرؤية الوطنية الجامعة، تأتي القضية الكوردية بوصفها اختباراً حاسماً لصدق النوايا. فالكورد، الذين يشكلون ثاني أكبر قومية في البلاد، لم يكونوا يوماً على هامش التاريخ السوري، بل كانوا جزءًا من نسيجه النضالي، وقدموا تضحيات جسام في مقاومة الاستبداد ومواجهة الإرهاب.
إن ما يطرحه الكورد اليوم ليس انفصالًا ولا خروجًا عن الصف الوطني، كما يحلو للبعض أن يصور، بل هو مطالبة مشروعة ومؤجلة بالاعتراف بوجودهم كشعب أصيل، له لغته وثقافته وتاريخه، ويستحق أن يُعامل كمواطن متساوٍ في الحقوق والواجبات.
الاعتراف باللغة الكوردية، وضمان تعليمها واستخدامها رسميًا، إلى جانب اللغة العربية، ليس ترفًا ثقافيًا، بل استحقاق قانوني وأخلاقي. وتمثيل الكورد في مؤسسات الدولة، ودمج مناطقهم في وحدة إدارية متكاملة ضمن إطار دولة اتحادية، هو السبيل الحقيقي لدمجهم الكامل، وليس تهميشهم أو ابتلاع خصوصيتهم.
رفض السياسات العنصرية وتعويض المتضررين
السياسات التي مورست ضد الكورد على مدى عقود – من الحزام العربي، إلى مشاريع التعريب، وسحب الجنسية، وحرمانهم من التعليم بلغتهم – يجب أن تُلغى بالكامل، ويُعوّض ضحاياها، وتُعاد الأمور إلى نصابها التاريخي والقانوني. كذلك، فإن عودة النازحين من سري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) وعفرين، ليست فقط حقًا إنسانيًا، بل اختبار حقيقي لمدى جدية الأطراف في إنهاء التغيير الديموغرافي القسري.
الكرامة الوطنية لا تُجزّأ
من المؤسف أن تُوجّه الاتهامات "الانفصالية" إلى من يطالب بحقه في وطن حر وديمقراطي. فالكورد لم يحملوا السلاح ضد الدولة، بل ضد من أرادوا إسقاطها في هاوية الطغيان أو التطرف. وإنصافهم لا يعني تقسيم البلاد، بل إعادة بنائها على أسس التعدد والعدالة.
إن قوة سوريا تكمن في وحدتها الطوعية، لا في وحدتها القسرية. وفي احترام مكوناتها، لا في إنكارها. وما لم يُعترف بالكورد – وغيرهم من المكونات – كشركاء فعليين في الوطن، فإن الحديث عن وحدة وطنية سيبقى مجرد خطاب أجوف لا يصمد أمام أول اختبار.
نحو سوريا جديدة
آن الأوان لسوريا أن تتصالح مع ذاتها. أن تفتح أبوابها للجميع، وتطوي صفحات الإقصاء والتمييز. فالوطن لا يُبنى على أنقاض الآخرين، بل بسواعدهم. وما يريده الكورد ليس أكثر من وطن يحتضنهم كما يحتضن غيرهم، وطن لا يُجبرهم على الاختيار بين هويتهم السورية وهويتهم القومية، بل يعترف بهما معًا، ويحول التنوع من لعنة إلى مصدر قوة.
ليفانت: ماهين شيخاني
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!