الوضع المظلم
الجمعة ٠٢ / مايو / ٢٠٢٥
Logo
  • من قامشلي يتحول الحلم إلى مشروع ونداء البارزاني يوحّد الطريق 

من قامشلي يتحول الحلم إلى مشروع ونداء البارزاني يوحّد الطريق 
عزالدين ملا

في خضمّ هذا الركام السوري المتكاثر، حيث تتوالد الخرائط وتتصادم المشاريع وتتناحر الأجندات، بات من الصعب أن ترى ملامح الوطن وسط هذا الغبار. سوريا التي تحوّلت إلى ساحة مفتوحة لتجريب توازنات القوى الإقليمية والدولية تعيش حالة من التشكّل الجيني السياسي لا يشبه أي مرحلة مرت بها منذ الاستقلال. فكل شيء يُعاد إنتاجه على أسس جديدة، الولاء والانتماء والهوية والقرار.

وسط هذا المشهد المأزوم يعود الكورد في سوريا إلى الساحة لا بصفتهم مجرد ضحية ولا بوصفهم أقلية تبحث عن فتات الحقوق، بل كمكوّن أصيل يملك سرديته الخاصة وتاريخه العميق ومظلوميته الممتدة ورغبته الجادة في صياغة مستقبل جديد يتّسع له ولغيره. الكورد لا يطالبون بالانفصال ولا يعرضون أنفسهم كبديل بل يريدون فقط أن يكونوا جزءا من كلّ، بشرط ألا يُذوّبهم هذا الكل ولا يبتلعهم كما فعل من قبل.


لقد جاءت الرؤية الكوردية المشتركة التي أُعلنت في قامشلي لا كرد فعل على حدث آني ولا كمحاولة لاقتناص لحظة سياسية عابرة، بل كمحصّلة لتراكم طويل من الألم والوعي والانتظار. إنها ليست مجرد وثيقة سياسية بل تكثيف لكل ما حمله الكورد من خيبات وأحلام منذ أن رسمت اتفاقية سايكس-بيكو خريطة المنطقة على حسابهم. في هذه الرؤية، يتجلى نضج اللحظة الكوردية حين قرّر الفرقاء الكورد بكل انقساماتهم السابقة أن يتقدّموا خطوة إلى الأمام نحو وحدة الصف، بعد أن أدركوا أن ألد أعدائهم لم يكن النظام فقط، بل الفرقة والانكفاء والولاء للجهات بدل الولاء للقضية.


وهنا، لا يمكن تجاهل الدور المحوري الذي لعبه الرئيس مسعود البارزاني، الزعيم الكوردي الذي لم يكن غريبا عن معاناة كورد سوريا، ولا بعيدا عن حلمهم بأن يكونوا شركاء حقيقيين في الوطن السوري لا مجرد ضيوف في أرضهم. لقد مارس البارزاني دور الراعي الوطني في أدق تجلياته، داعيا بإلحاح الأب المجرّب الأطراف الكوردية في سوريا إلى تجاوز الشكوك والانقسامات، والعمل على صياغة رؤية موحدة تتجه نحو دمشق، لا كعاصمة سلطة بل كمركز قرار شرعنة الحقوق وكبوابة لتثبيت الوجود الكوردي في الدستور السوري الجديد.


كان نداء البارزاني أكثر من مجرّد موقف سياسي. لقد كان بمثابة جرس استنهاض قوميّ هادئ وحكيم، يُذكّر الجميع بأن الكورد في سوريا لن يحظوا بمكانهم الطبيعي إلا إذا تكلموا بصوت واحد، وتحركوا باتجاه وطني جامع. فالبارزاني لم يدفع نحو الرؤية الموحدة بدافع القومية الانفعالية، بل بدافع الحكمة التاريخية التي علّمته أن الحقوق لا تُنتزع إلا بوحدة الإرادة، وأن العالم لا يستمع لمن يصرخ مشتتا، بل لمن يتحدث متّحدا.


هذا التحول لم يأتِ من فراغ. لقد خاض الكورد معارك سياسية وعسكرية طويلة، اختبروا فيها كل درجات التهميش وعرفوا حجم التحدي الإقليمي الذي يواجه طموحهم. ففي كل مرة حاولوا فيها أن يرفعوا صوتهم، كانت أنقرة تبادر بالتحليق في السماء، وطهران تهمس في الآذان، ودمشق تلوّح بورقة الوطنية المشروطة. ومع ذلك، فإن الإرادة الكوردية أثبتت أنها لا تستسلم بسهولة، وأنها رغم نزيف الدم والانكسارات، تعرف كيف تعيد ترتيب صفوفها حين يحين الوقت.


لكن ليست القوة وحدها ما تحتاجه الرؤية الكوردية اليوم، بل الحكمة. الحكمة في قراءة اللحظة السورية بكل ما تحمله من هشاشة، والحكمة في فهم أن الحقوق لا تُؤخذ بالصوت العالي فقط، بل أيضا بالتفاوض الذكي. الكورد بحاجة إلى سياسة توازنات دقيقة، توازن بين الطموح القومي والانفتاح الوطني، توازن بين الخصوصية الثقافية والانتماء العام، وتوازن بين الواقعية السياسية والحلم المشروع. فلا يمكن للرؤية أن تنجح إن انغلقت على نفسها، ولا أن تُقنع الآخرين إن لم تُطَمْئنهم.


ولعلّ ما يزيد من تعقيد الموقف أن كل طرف إقليمي ينظر إلى المسألة الكوردية بعين الشك. تركيا ترى في أي تمكين كوردي نواة تهديد للأمن القومي، وإيران تتحسّب من عدوى قومية قد تنتقل إلى كوردها، وحتى إسرائيل، التي تدعم بعض القوى الكوردية سرا، لا تفعل ذلك لوجه الحقوق بل في سياق مصالحها. أما القوى الدولية، فإنها تنظر إلى الكورد بمنظار المصلحة لا المبادئ، تدعمهم حين تحتاج إليهم، وتتخلى عنهم عندما تتغيّر الأوراق.


ورغم كل هذا، فإن الرؤية الكوردية قادرة على أن تُحدث فرقا، إذا نجحت في تحويل الحلم إلى مشروع وطني. المشروع الذي يقول إن سوريا لن تكون عادلة إذا بقيت تُدار بعقلية الإقصاء، وإن بناء دولة جديدة يتطلب عقدا اجتماعيا يعترف بالتعدد، ويُقنن المساواة، ويُعيد تعريف الهوية السورية لا باعتبارها قومية ضيقة، بل كجغرافيا جامعة للهويات المتنوعة. إن إعادة بناء سوريا تتطلب شراكة حقيقية، لا فضل فيها لأحد على أحد، ولا وصاية فيها من أحد على أحد.


لذلك، فإن اللحظة التي يعيشها الكورد اليوم هي لحظة استثنائية بكل المقاييس. فهي تجمع بين نضج الوعي، وانكشاف العدو، ووضوح الهدف، وتوفّر الفرصة. وهي لحظة نادرة في تاريخ الشعوب. فإن أحسنوا إدارتها، فإنهم لن يكونوا فقط من حفظوا اسمهم في التاريخ، بل من ساهموا في كتابة تاريخ سوريا الجديدة. سوريا التي لا تُبنى بالاستبداد ولا بالتهميش ولا بالعنصرية، بل بالاعتراف والمساواة والشراكة الحقيقية.


وفي قلب هذه الرؤية، لا يوجد مطلب أكبر من أن يُعامل الكوردي كإنسان وكمواطن وكجزء من نسيج وطني لا يُنتقص منه شيء بسبب لغته أو قوميته أو ثقافته. وهذا هو جوهر المسألة، العدالة. فإذا تحققت العدالة، فإن كل الشعارات الأخرى تصبح قابلة للحياة. أما إذا بقي الكورد يُنظر إليهم كخطر أو كحالة مؤقتة فإن الأزمة ستتكرر والنزيف لن يتوقف.


وما بين هذا وذاك، تبقى الآمال الكوردية معلقة على لحظة وطنية جامعة، لحظة تُنهي سباق النفي المتبادل، وتؤسس لمعنى جديد لسوريا، تكون فيها قامشلي كما دمشق، والحسكة كما حلب، ويكون فيها الكوردي والعربي والسرياني شركاء في الحلم، وفي وجع الطريق إلى الحلم، حلمٌ لم يعد مجرد فكرة بل مشروعٌ مشتركٌ تقوده الحكمة وتصونه الوحدة وتدعمه قيادة لم تنكسر يوما، بل كانت دوما تُذكّر بأن الكورد ليسوا وحدهم إذا اجتمعوا.

ليفانت: عزالدين ملا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!